من جميع أنحاء العالم، تدفقت الإشادات بمناقب رئيس الأساقفة ديزموند توتو الذي توفي في جنوب أفريقيا في 26 ديسمبر الماضي عن 90 عاماً تقريباً. وفي تأبين توتو، غرد الرئيس السابق باراك أوباما على تويتر قائلاً إن الراحل الحائز على جائزة نوبل للسلام كان «مرشداً وصديقاً وبوصلة أخلاقية بالنسبة لي ولآخرين كثيرين». وأضاف أوباما أن توتو كان «روحاً عالمية تصدت للنضال من أجل التحرير والعدالة في بلادها، لكنها انشغلت أيضاً بالظلم في كل مكان». وأشاد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بتوتو باعتباره «شخصية عالمية شامخة من أجل السلام ومصدر إلهام للأجيال في جميع أنحاء العالم. خلال أحلك أيام الفصل العنصري، كان منارة مشرقة للعدالة الاجتماعية والحرية والمقاومة غير العنيفة». ومضى جوتيريش يقول: «وفاة توتو تترك فراغاً كبيراً على المسرح العالمي وفي قلوبنا، سنستلهمه دوماً لمواصلة النضال من أجل عالم أفضل للجميع».
وظهرت هذه الإشادات في مقابل انتقادات شديدة من آلان ديرشوفيتز، أستاذ القانون السابق في جامعة هارفارد الذي يظهر كثيراً في وسائل الإعلام. وبينما كان الثناء يتدفق، توجه ديرشوفيتز إلى قناة فوكس نيوز ليعترض قائلاً: «العالم في حداد على الأسقف توتو الذي توفي منذ قليل. هل يمكنني أن أذكر العالم أنه على الرغم من قيامه ببعض الأشياء الجيدة، والكثير من الأشياء الجيدة بشأن الفصل العنصري، إلا أن الرجل كان معادياً شرساً للسامية ومتعصباً؟» وأشار ديرشوفيتز إلى أن رئيس الأساقفة بسبب شهرته وتأثيره كان «أكثر المعادين للسامية تأثيراً في عصرنا». ومضى ديرشوفيتز يقول: «عند إنعام النظر في مشوار حياة أشخاص لهم تركات مختلطة مثل، توماس جيفرسون وأبراهام لنكولن وجورج واشنطن وآخرين غيرهم، يتعين علينا أن ندرج في حساب توتو تعصبه الشرير ضد اليهود الذي ظل لسنوات كثيرة جداً جداً».
وتوتو لا يحتاج لدفاعي. فمجمل حياته وعمله في سبيل حقوق الإنسان يتحدث عن نفسه. ولم تكن دعوته للتراحم وسعيه لتحقيق المساواة مرتبطاً بعرق أو دين أو تقارب ثقافي أو جغرافي. لقد نهض للدفاع عن المقموعين، سواء في بلدات جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري، أو في شوارع زيمبابوي في ظل نظام روبرت موجابي.. تصدى توتو للتعصب أينما يطل بوجهه القبيح.
وتمسك توتو بقناعاته. ودعا المجتمع الدولي إلى فرض عقوبات على المجلس العسكري للديكتاتور النيجيري ساني أباشا بعد شنق الناشط البيئي والكاتب المسرحي كين سارو ويوا وآخرين عام 1995. وبعد ظهور أدلة على مقتل ونزوح آلاف الأشخاص في إقليم دارفور السوداني، أدان توتو القادة الأفارقة لتقاعسهم عن تنفيذ مذكرة اعتقال صادرة من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس السوداني آنذاك عمر حسن البشير بسبب اتهامه بجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
ونعم، كان توتو منتقداً شرساً للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مستنداً، جزئياً، في انتقاداته على تجربته في الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وقبل الهجوم الذي شنه ديرشوفيتز في قناة فوكس نيوز، لم أكن أعلم بعداء ديرشوفيتز لتوتو. لكن بعد ذلك، اطلعت على قصة نُشرت في أول أكتوبر 2014، في صحيفة «جويش وويك (الأسبوع اليهودي)» في نيويورك جاء فيها «ديرشوفيتز: كارتر وتوتو أياديهما ملطخة بدماء غزة» وفي مقابلة صحيفة «جويش ويك»، اتهم ديرشوفيتز الرئيس السابق جيمي كارتر وتوتو بدعم ما يُعتقد أنه استراتيجية لحماس تستغل فيها مقتل المدنيين الفلسطينيين، والأطفال بخاصة، في الدعاية ضد إسرائيل.
من حق ديرشوفيتز استخدام مكانته البارزة للتعبير عن نفسه، وربما يشاركه آخرون وجهات نظره ضد توتو. وهذا حق أيضاً لمنتقدي إسرائيل الذين يخاطرون للأسف بأن يوصفوا بمعاداة السامية. لكن هذا يجعل من الضروري فيما يبدو لي أن نستغل مناسبة وفاة توتو، وهجوم ديرشوفيتز عليه، لإعادة وضع أسس أميركية بشأن الأراضي الفلسطينية وإسرائيل. وللسياسة الخارجية للولايات المتحدة عدد من الثوابت. وتأمين الدولة التي كانت الولايات المتحدة أول من اعترف بها عام 1948 سيظل واحداً من هذه الثوابت. لكن قيام «مجتمع فلسطيني وحكم فلسطيني آمن وحر وديمقراطي ومستقر» هو التزام أميركي بالمثل، حسبما صرحت وزارة الخارجية في ظل إدارة الرئيس جو بايدن. ولا أعرف كيف يتواءم أي من هذا مع آراء ديرشوفيتز الضيقة، لكنني أعتقد أن الطريق الصحيح هو التوصل لحل تفاوضي شامل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني تتمتع فيع جميع الأطراف بالحرية والأمن والازدهار. ودعوني افترض أن توتو، داعية السلام والمصالحة، ما كان ليعارض هذا.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»